المسألة المجالية في تونس ما بعد الثورة
عمر بالهادي
كلية العلوم الانسانية والاجتماعية جامعة تونس
للمسألة المجالية أهمية بالغة في واقع الشعوب وفي مستقبلها ولقد كان البعد المجالي واضحا، جليا في الثورة التونسية من حيث المنطلق والمسار والمطلب ويشكل في الآن نفسه محددا لمآلها ولمستقبل البلاد القريب والبعيد. وتكتسي التنمية الجهوية والمحلية والتهيئة الترابية في هذا المجال منزلة خاصة، وسنقتصر على هذا الجانب في هذه الورقة بحيث سنتطرق إلى مسار وحصيلة العملية التنموية بالبلاد التونسية لنخلص في مرحلة ثانية إلى التهيئة الترابية على أهميتها ونصل في مرحلة أخيرة إلى الرهانات المستقبلية.
I – المسألة المجالية
تكتسي المسألة المجالية أهمية بالغة في مسار الدول والشعوب حيث تحدد التوازنات الداخلية على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي كما تحدد كذلك العلاقات مع دول الجوار والمحيط الإقليمي. وقد انتبهت جل الدول مؤخرا إلى الأهمية الإستراتيجية للمجال في التوازنات العامة ومستقبل المجتمعات حيث بدأت سياسات التهيئة تتوضح وتدخل حيز الفعل مع بداية السينات في العديد من الدولع كفرنسا أو إيطاليا في حين أن التنمية الاقتصادية بدأت قبل ذلك، بعيد الحرب العالمية الثانية. وفي تونس نجد أن المسألة المجالية بدأت تطرح نفسها بجدية مع نهاية الستينات مع فشل أولى تجربة تنموية لدولة الاستقلال حيث لم يقع إيلاء المسألة المجالية العناية الكافية رغم وجود نية واضحة للحد من اختلال التوازن الجهوي في الستينات والعمل على الحد من الاختلالات. فأول دراسة وضعت بعض التوصيات لم تتم إلا سنة 7319ِ كما أن أول مثال توجيهي للتهيئة الوطنية لم يتم إعداده إلا سنة 1985 لكن الأزمة التي شهدتها البلاد آنذاك حتمت مراجعة المثال قبل أن يدخل حيز التنفيذ بعد عشر سنواتِ في إطار اندراج الاقتصاد في العولمة.
1 – الوضع والاشكالية
لقد مرت البلاد التونسية منذ الاستقلال من اختلال بين الشمال والجنوب نجم عن المعطيات الطبيعية والاستعمار إلى اختلال آخر بين السواحل والدواخل نتج عن مختلف التجارب التنموية والسياسات المتبعة من طرف السلطة منذ الاستقلال.
أ – من اختلال إلى آخر
تميزت البلاد التونسية قبيل الاستقلال باختلال التوازن الجهوي أو الإقليمي بين الشمال من جهة والوسط والجنوب من جهة ثانية نتيجة العوامل الطبيعية أساسا (المناخ، التربة، الموارد المائية…) والتاريخ عامة والاستعمار بالخصوص حيث كانت أخصب الأراضي تنحصر بالشمال وكان الاقتصاد يرتكز أساسا على تركزت الجالية الأوروبية بخصب الأراضي الفلاحية بالشمال. واستوطنت لجالية الاوروبية الاستعمارية بأخصب الاراضي بالشمال، الغربي منه بالخصوص كحوض وادي مجردة والتل الأعلى… كما استقرت بأهم المدن كالعاصمة ومنزل بورقيبة وبنزرت وبالمراكز الفلاحية مثل سليانة وقعفور والفحص وماطر…أما في الوسط والجنوب فقد اقتصر فيه توطن هذه الجالية على الحبوب والزياتين على بعض الضيعات المحدودة أو على بعض المراكز المنجمية كما هو الشأن في الحوض المنجمي بقفصة أو القلعة الخصباء والجريصة في الشمال في الوقت الذي كان كامل الجنوب يخضع سطة العسكرية. وقد ركز التقرير الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل، سنة 1956، على هذا الاختلال وقدم في هذا الصدد بعض الاقتراحات لدمج التراب التونسي والحد من هذا الاختلال الجهوي. وقد تم اعتماد جزء هام من هذا البرنامج في ما بعد، في إطار التجربة التعاضدية خلال الستينات عندما أصبح الأمين العام للمنظمة الشغيلة كاتب دولة للتخطيط والفلاحة والاقتصاد.
ونلاحظ منذ السبعينات أن أكبر اختلال مجالي أصبح يوجد بين السواحل والدواخل، بالإضافة إلى التفاوت الموجود والمعهود بين المدن والأرياف أو بين مختلف المناطق داخل الولاية الواحدة. هذا الاختلال الجهوي بين السواحل والدواخل يعد السمة المميزة لدولة الاستقلال طيلة نصف قرن ويعتبر نتيجة سياسة التنمية الترابية المتبعة أساسا.
وما تجدر الإشارة إليه أنه مع بداية التسعينات نلاحظ انحسارا أكبر للمجال الاقتصادي التونسي النشيط والذي يتميز بدينامية اقتصادية كبيرة داخل مثلث يضم كلا من الشمال الشرقي والساحل ويربط بين بنزرت والمهدية وقليبية بالتوازي مع التراجع النسبي لباقي المناطق الساحلية وتنقية وظيفية للعاصمة تونس لفائدة هذه الواجهة الساحلية.
ب – الحصيلة : التركز الساحلي
1- تمثل الواجهة الساحلية الشرقية أهم منطقة يتركز فيها السكان والتجهيزات والاقتصاد والثروة هي تمثل:
- 68،4% من السكان مع نسب نمو تفوق المعدل الوطني (1.21% سنويا منذ 1984).
- 51% من المناطق السقوي، 60% من الإنتاج والصادرات الفلاحية
- 94% من الشغل الصناعي والسياحي
- 75% من القيمة المضافة
- 67% من السيارات و86،4% من حواسيب نوادي الانترنات…
- أعلى مستويات الإنفاق الأسري
هذا الشريط تميز منذ الاستقلال باستقطاب السكان والهجرة الداخلية حيث يمثل منطقة مستقطبة للسكان النازحين والمهاجرين من أرياف ومدن المناطق الداخلية. فالسواحل كانت تمثل %64,7 من السكان سنة 1956 وهي تمثل اليوم ما يزيد عن %68.4.
أما نسبة سكان الحضر فتزيد عن ذلك بكثير لارتفاع نسب التحضر بالسواحل، فالواجهة الساحلية تضم أهم المدن وأكثرها دينامية ديمغرافية واقتصادية. فعلى مجموع 26 من المدن الأولى نجد 23 منها تتجاوز نسبة نموها بين 1994-2004 المعدل الوطني خلافا للدواخل التي نجد فيها 22 من بين 26 مدينة نسب نموها دون المعدل الوطني (1,2). في هذا الشريط الساحلي تحتل العاصمة مكانة متميزة من حيث الوزن والوظيفة والاشعاع.
ج – أهمية العاصمة
تحتل العاصمة تونس مكانة هامة في هذا الشريط الساحلي وفي كامل القطر حيث تمثل أهم قطب اقتصادي وتجمع سكاني، من ذلك فهي تمثل على سبيل المثال:
- %23 من السكان و%33.6 من سكان المدن
- 43% من عدد الطلبة و52% من مخابر البحث، 47,5% من حواسيب نوادي الانترنات
- 35.5% من الشغل الصناعي و56% من المؤسسات الجديدة سنة 2009
وقد تدعمت مكانة العاصمة ديمغرافيا منذ الاستقلال حيث مرت من % 16 من السكان سنة 1956 لتصل إلى %20.8 سنة 1984 و%23 سنة 2004. أما اقتصاديا فإننا نلاحظ، أنه رغم تخفيف التركز في العاصمة والتطور النسبي للمناطق الأخرى، لا تزال العاصمة تحافظ على نسب هامة من النشاط الاقتصادي حيث تمثل أكبر قطب للهجرة منذ الاستقلال دون انقطاع، وأهم مركز تسيير اقتصادي لا نجد بجانبه إلا مدينتي صفاقس وسوسة في مراتب بعيدة جدا. منذ السبعينات نلاحظ أن هناك عملية تنقية وظيفية للنسيج الاقتصادي للعاصمة تمت لفائدة الواجهة الساحلية عموما وخاصة الشمال الشرقي ومنطقة الساحل وأصبحت العاصمة تحتكر الأنشطة العصرية والمتطورة تكنولوجيا بصفة جلية ويبرز ذلك من خلال دراسة توزع شركات الاعلامية والتكنولوجيات الحديثة والمجددة (Belhedi A 2007, 2011).
د – المناطق الداخلية
في هذا الإطار نجد أن المناطق الداخلية لا تمثل إلا نسبة محدودة من النشاط الاقتصادي والتجهيزات والمرافق رغم شساعة الرقعة الترابية وأهمية السكان. تمثل المناطق الداخلية مناطق مهمشة بحكم الاختيارات المتبعة منذ الاستقلال ولقد تتالت الأزمات منذ فترة، انطلاقا من أزمة الحوض المنجمي سنة 2008 التي نجح النظام القائم آنذاك في محاصرتها مجاليا، إلى القصرين وبن قردان في أوت 2010 .
في هذا الإطار تتفاوت مكانة مختلف المناطق الداخلية حيث نجد أن الوسط الغربي أصبح منذ فترة قريبة (بداية التسعينات) يمثل أقلها تطورا وأصبح يحتل المرتبة الأولي قبل الشمال الغربي وليس من باب الصدفة أن تنطلق الثورة من الوسط الغربي.
هــ – الوسط الغربي : منطلق الثورة ؟
يمثل الوسط الغربي منذ نهاية الثمانينات أكبر منطقة مهجرة أصبحت تحتل الصدارة من حيث الهجرة قبل الشمال الغربي الذي كان يحتل هذه المرتبة إلى حدود الثمانينات (MDE 1996).
فالهياكل الاجتماعية (نسبة الخصوبة، نسب النمو الطبيعي) والروابط الأسرية (أهمية الأسرة الممتدة والروابط العروشية والقبلية) ساهمت إلى حد كبير بجانب الجانب العقاري المتمثل في أهمية الأراضي الجماعية، كلها عوامل ساهمت في شد السكان إلى الأرض وموطن النشأة حتى إلى فترة قريبة. لكن توزيع الأراضي الجماعية وتدني مستوى الدخل أديا إلى تدفق الهجرة نحو السواحل خاصة في اتجاه الوسط الشرقي أو القطر الليبي والجدولين المصاحبين يعكسان تدفق رصيد الهجرة الداخلية ومستوى المعيشة في مختلف المناطق عبر مختلف الفترات.
حصيلة الهجرة الداخلية لمختلف المناطق
الجهة 1969-75 1979-84 1989-1994 1999-2004
——————————————————————-
تونس 40.1 45.5 47.8 58.5
الشمال الشرقي -13.8 -6.6 -0.3 4.5
الوسط الشرقي 6.1 8.9 18.6 49.6
الجنوب الشرقي 1.8 1.2 -2.7 -4.5
الشمال الغربي -31.8 -36.6 -35.9 -45.3
الوسط الغربي -3.5 -12.5 -23.9 -52.5
الجنوب الغربي -2.5 -2.3 -3.6 -10.3
——————————————————————-
المصدر : المعهد الوطني للإحصاء
فإلى حدود نهاية الثمانينات يعتبر الشمال الغربي أكبر منطقة مهجرة ويرجع ذلك إلى بداية القرن الماضي مع استحواذ المعمرين على الأراضي وتواصت مع بداية الاستقلال وخاصة التجربة التعاضدية. ولكن مع بداية التسعينات أصبح الوسط الغربي هو أول منطقة مهجرة لسكانها في حين أن الجنوب الغربي شهد حصيلة سلبية متزايدة منذ نهاية الثمانينات.
مستوى الإنفاق الفردي في السنة في المناطق الغربية 1975- 2004 (د)
975 1 1985 1990 1995 2000 2005
——————————————————-
الشمال الغربي 98 284 501 677 1103 1416
الوسط الغربي 103 324 509 586 909 1138
الجنوب الغربي 101 416 521 711 1017 1466
الجنوب الشرقي 101 359 600 739 1097 1826
الشمال شرقي 132 450 760 958 1190 1613
الوسط الشرقي 166 544 809 1275 1594 2048
تونس العاصمة 260 725 1007 1282 1761 2390
——————————————————-
البلاد التونسية 147 471 716 966 1329 1820
——————————————————-
المصدر : المعهد الوطني للإحصاء
فالمناطق الغربية وبدرجة أقل الجنوبية، تتميز بأهمية الفلاحة الممتدة وأهمية الوظيفة العمومية والبطالة بالإضافة إلى انخفاض مستوى التحضر وأهمية تشتت السكن بالأرياف خاصة بالوسط والشمال الغربيين مما يطرح إشكالية التنمية بحدة في هذه المناطق مستقبلا.
هذا الوضع المختل كان نتيجة منطقية للمقاربة المتبعة والاختيارات المعتمدة على مستوى التنمية الترابية منذ الاستقلال.
2 – المقاربة والاختيارات
لقد كان لحركة التحرر ضد الاستعمار وللسعي نحو بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال دور في إعطاء الأولوية المطلقة للجانب الاقتصادي وتركيز السلطة المركزية الناشئة مما أدى إلى الحد من السلطة الجهوية والمحلية. كما أن الأولوية التي حضيت بها المسألة الاقتصادية جعلت المسألة المجالية ثانوية جدا ولا تطرح إلا عند الأزمات.
أ - أولوية البعد الاقتصادي : بناء الاقتصاد الوطني
تمثلت المقاربة المعتمدة أساسا في أولوية البعد الاقتصادي في بناء الدولة الحديثة مما أدى إلى اعتبار النمو كهدف أساسي » للحاق بركب الأمم المتقدمة » كما نجد ذلك في الخطاب السائد وخاصة السياسي منه، ومن ثم تم اختيار المناطق التي تؤمن ذلك النمو المرتقب على الصعيد الوطني لتوطين مختلف المشاريع، فالجهة لم تكن إلا ركيزة مجالية ووسيلة لبلوغ الهدف الوطني. النتيجة الحتمية لهذا التمشي كانت التركيز على المناطق المحضوضة آنذاك وتركز الاستثمار بها بصفة مبرمجة أو عفوية حيث نجد % 60 من الاستثمار العمومي و80% من الاستثمار الخاص تتركز في المناطق الساحلية.
* من الاندماج الترابي إلى الاندراج في العولمة
يمكن القول هنا أن توجهات الدولة خلال الستينات كانت في اتجاه الاندماج الترابي للقطر وبعث أقطاب تنموية في الداخل تمثلت في معامل تكرير السكر بباجة وورق الحلفاء بالقصرين والصوف بالحاجب ومواد البناء بالحامة وجمال… لكن حتمية تعويض الصناعات الموردة وتأميم الصناعات الاستعمارية وأزمة بنزرت مع الجلاء كلها كانت عوامل أدت إلى تدعيم الشريط الساحلي (تونس، صناعات بنزرت ومنزل بورقيبة، المعامل الميكانكية بالساحل، موبلاتيكس بالمنستير، صناعات النسيج بقصر هلال، الفوسفاط بصفاقس). من جهة أخرى، أدى إنشاء المناطق السياحية والمطارات والتجهيزات المصاحبة لها بكل من الحمامات- نابل وسوسة-المنستير وجربة- جرجيس إلى تعزيز الشريط الساحلي. هذه الانجازات أدت إلى جعل الشريط الساحلي منطقة استقطاب جعلت من العاصمة والساحل والوطن القبلي مناطق جذب سكاني واقتصادي.
خلال السبعينات، جاءت الصناعات التصديرية الخاضعة لقانون 1972 والتي غزت جل المدن الساحلية في الوقت الذي ساعد فيه الانفتاح على إرساء اقتصاد تخارجي عززه بعث المركب الكيميائي بقابس والميناء.
أما خلال الثمانينات والتسعينات فنجد الطرق السيارة والمناطق الحرة بكل من بنزرت وجرجيس والمحطة السياحية بالقنطاوي ثم الياسمين-الحمامات والمنطقة السياحية بالمهدية… أخيرا، نجد كل المشاريع المنجزة، بصدد الانجاز أو الدراسة أو حتى تلك التي وقع التخلي عنها خلال العقدين الأخيرين مثل ضفاف البحيرة بتونس العاصمة، المحطات السياحية بهرقلة والسلوم، مطار وميناء النفيظة، كل البرامج بالعاصمة (سماء دبي، المرسى المالي…) وكذلك الجامعات والأقطاب التكنولوجية.
أما في الداخل، فإن تدخل الدولة اقتصر عموما على بعض المشاريع المحدودة ( عدة مشاريع تم العدول عنها مثل سرا ورتان…)، كالمحطة السياحية بطبرقة، الاسمنت الأبيض بالشمال الغربي، المركب الكيميائي بقفصة والمطار، السياحة الصحراوية بتوزر…
لقد كان المخطط السادس أول مخطط يخصص فصلا كاملا للتنمية الجهوية وقد تم في إطاره بعث المندوبية العامة للتنمية الجهوية التي تولت إعداد خريطة الأولويات الجهوية سنة 1982 وبرنامج التنمية الريفية المندمجة والأمثلة الجهوية للتنمية لكل من الشمال والوسط الغربيين والجنوب (CGDR 1986)[1].
لقد حضي التخطيط الاقتصادي والقطاعي بأولوية واضحة خلافا للتخطيط المجالي والترابي الذي بقي في درجة ثانوية من حيث التوقيت والدور والمهام والمؤسسات والتقنيات وانعكس ذلك بشكل واضح على مستوى التنمية الترابية.
* في التهيئة الترابية : عدم وضوح الرؤيا
كان للتجربة التعاضدية الأثر البالغ في اندلاع موجة جديدة للنزوح والهجرة نحو المدن، والعاصمة أساسا، خلال النصف الثاني من الستينات وبداية السبعينات مما جعل المدن تسجل نسب نمو مرتفعة جدا ودفع السلط للقيام بدراسة عامة « الوحدات الحضرية (Unités urbaines) 1969، المدن والتنمية (Villes et développement) 1973″ وعدة دراسات مع بداية السبعينات أطرتها إدارة التهيئة الترابة، وشملت أهم المدن كتونس وصفاقس وسوسة وقابس وذلك للتحكم في النمو الحضري وتلبية الحاجيات من خلال التجهيزات والمرافق. أما القانون الأساسي للبلديات فيرجع إلى سنة 1975. وكانت أولى أمثلة التهيئة العمرانية مع نهاية السبعينات (تونس1977 ، صفاقس 1978..) ولم توضع مجلة التعمير إلا في سنة 1979 في الوقت الذي كانت فيه التهيئة الترابية غائبة وعلينا أن نترقب سنة 1994 للمصادقة على مجلة التهيئة الترابية والتعمير.
في سنة 1985 تم إعداد المثال الأول للتهيئة الترابية الذي اعتمد التوازن الجهوي كاختيار أساسي جعل من كل جهة تعتمد على ذاتها لشد سكانها. لكن الأزمة التي عرفتها البلاد في منتصف الثمانينات أجبرت السلط على التخلي عن جل المشاريع التي كانت مبرمجة آنذاك وإتباع برنامج الإصلاح الهيكلي والاندراج في العولمة من بابها الكبير من خلال الاتفاقية القمرقية مع الاتحاد الأوروبي سنة 1996 وتأهيل الاقتصاد الوطني طيلة 12 سنة (1996-2008) ليكون جاهزا سنة 2008 التي مثلت، في الواقع، سنة انطلاق الأزمة من جديد بداية من الحوض المنجمي.
في هذا الإطار تم إعداد المثال الثاني للتهيئة الترابية لسنة 1996- 1998 الذي اندرج كليا في سياسة الانفتاح وتخلي الدولة الراعية عن مهمتها وخصخصة المؤسسات العمومية غير الإستراتيجية (؟) أو غير المربحة (؟) كمعامل الاسمنت، والاتصالات… هذا المثال اعتمد تقسيم البلاد التونسية إلى جزء ناجع ومؤهل لاستقطاب الأنشطة الإقتصادية والاندراج في الاقتصاد العالمي وذلك حول حواضر جهوية والتجهيزات الأساسية القاعدية، يتمثل في الشريط الساحلي. أما القسم الآخر فقدره الإعانة والمعونة والدولة بذلك من خلال إعادة توزيع الثروة والبرامج الاجتماعية بالمناطق الداخلية. ومن حسن الحظ أنه لم تقع المصادقة على هذا المثال التوجيهي أو المديري للتهيئة نظرا للتبعات السياسية المنجرة عنه حيث تم تقسيم البلاد إلى قسمين: قسم صالح يضم المناطق الساحلية وقسم غير صالح يشمل كل المناطق الداخلية. في الواقع، نلاحظ أن جزءا هاما من توجهات هذا المثال التوجيهي تم فعلا اعتمادها بصفة غير مباشرة وهو ما سارت عليه دائما السلطة[2] مثل نظام شبكة الطرقات السيارة أو الأقطاب التكنووجية…
من ناحية ثانية، نجد أن إدارة التهيئة الترابية كانت في البداية تابعة للاقتصاد الوطني مع نهاية الستينات وبداية السبعينات في شكل مصلحة، ثم تم إلحاقها في ما بعد بالتجهيز والإسكان ثم بالتخطيط مع نهاية الثمانينات ومن جديد بالفلاحة ثم بالبيئة وأخيرا بالتجهيز والإسكان. هذا التردد وهذه الضبابية تعكسان في الواقع عدم وضوح الرؤيا على مستوى المهام والدور والانتماء للتهيئة الترابية.
ب – مركزية الاستثمار ودور الدولة
إن المتمعن في المعطيات يجد هناك علاقة متينة بين الاستثمار وجل المؤشرات الاقتصادية ومستوى المرافق الاجتماعية من جهة، بين مستوى الاستثمار والتشغيل من جهة ثانية، بين الاستثمار العمومي (الدولة) والاستثمار الخاص، وأخيرا بين حجم الاستثمار الجهوي بن فترة ما والفترة اللاحقة؟ هناك إذن حلقة عضوية تديرها الدولة وتعتبر المفتاح لكل عملية تنموية.
ج – تغييب الجانب السياسي: غياب الجماعات الترابية
لقد وقع تغييب البعد السياسي للجهة وذلك لبناء الدولة الحديثة التي قامت على تدمير كل السلط الأخرى وتغييبها والعمل على حذف أسماء المناطق والولايات التي ترمز إلى انتماءات ترابية جهوية مثل نفزاوة، الجريد أو الوطن القبلي والتي تواجدت في السنوات الأولى من الاستقلال. فأسماء الولايات ترتبط بمراكزها فقط (ولاية بنزرت، ولاية الكاف…). كان هذا في البداية له تبرير تمثل في القضاء على العروشية والقبلية لكن لا نجد له تفسيرا بعد عدة عقود خاصة عندما نعلم أن الحزب الحاكم استغل دوما الانتماء العروشي والقبلي والجهوي في جل المناسبات السياسية كالانتخابات؟
في هذا الإطار، سعت السلطة المركزية إلى تعزيز وجودها في المناطق من خلال تنظيم مجالي عمودي لا مجال فيه لسلطة أخرى. فمجلس الولاية لم يحدث إلا سنة 1963 تحت إشراف الوالي الذي يعد ممثل رئيس الدولة في الولاية. في سنة 1989 تم إحداث المجالس الجهوية للتنمية التي تضم نواب الولاية ورؤساء البلديات وممثلي المصالح الجهوية وبالتالي كانت هذه المجالس تمثل لونا واحدا هي الدولة-الحزب الحاكم مع نسبة محدودة لأحزاب الموالاة في الفترة الأخيرة (قانون جويلية 2010 الذي مكن هذه المعارضة من التدرج من 7 إلى 22 بالمائة لكن الثورة لم تترك له مجالا للتنفيذ).
أما المجالس المحلية، فكانت تضم رؤساء البلديات مع العمد المعينين تحت رئاسة المعتمد في حين أن المجالس القروية تضم 5-6 أعضاء معينين تحت رئاسة العمدة.
فلا وجود لتمثيل حقيقي للسكان، لا على مستوى المعتمدية أو الولاية. أما الجهة أو الإقليم فلا وجود له بالبلاد التونسية خلافا للعديد من البلدان الأخرى كالمغرب أو اسبانيا أو إيطاليا وفرنسا، وهو مستوى لا بد من خلقه ليكون مجالا مناسبا للتنمية الجهوية والتهيئة الترابية على المستوى الإقليمي. هذه المؤسسات لا بد أن يضمنها الدستور لتكون سلطة ممثلة للمتساكنين ولتشكل سلطة مضادة تعدل بشكل أو بآخر من طغيان وزيغ السلطة المركزية إن وجدا بجانب الأحزاب والمجتمع المدني الذين يعدلان السلطة السياسية.
د – البعد الاجتماعي : التعديل، التأطير والاحتواء
في هذا الإطار، كان الطابع الاجتماعي والسياسي غالبا ما يميز جل البرامج التنموية لتعديل الدورة الاقتصادية والتخفيف من حدة الأزمات المحلية والجهوية وتقليص الفوارق ولو بصفة محدودة بين المدن والأرياف والحد من النزوح. فكان برنامج التنمية الريفية سنة 1973 لتثبيت السكان في الأرياف (CGDR 1984) وكان بعد ذلك برنامج التنمية الريفية المندمجة ثم الحضرية المندمجة وكذلك برامج التنمية الجهوية سنة 1987 التي ليس فيها من الجهوي سوى قاعدة التوزيع بين الولايات[3]. فجل البرامج تتسم بعدم الاندماج ولها طابع قطاعي وتحمل في طياتها معالجة تقنية لمسألة التنمية المحلية والجهوية التي أريد لها أن تكون عملية نثر مجالي (Saupoudrage) لبرامج قطاعية دون أي أدنى تنسيق في الزمان والمكان ومن حيث الارتباط التقني بين مختلف العمليات المبرمجة من طرف الوزارات كل على حدة، تجمع بين رياض الأطفال وجزء من مسلك فلاحي وقاعة علاج وحديقة أو ترميم المساكن المتداعية أو بعث مواطن شغل …
ه – محدودية المشروع والمجهود
لم تسجل برامج اللامركزية (décentralisation) إلا بعض الحالات المحدودة والمعدودة من المؤسسات التي حولت مقراتها الاجتماعية بمواطن الإنتاج مثل شركة فوسفاط قفصة أو ميبلاتكس أو المركب الكيميائي فالعاصمة بقيت مركز القرار السياسي والاقتصادي حيث تستقطب 60 بالمائة من المقرات الاجتماعية ولا تزال تستأثر بنسبة هامة من الشركات المحدثة.
كما أن سياسة تخفيف التركز أو اللاتركز (déconcentration) فقد استفادت منها المناطق البينية والوسطى التي توجد في الحزام الثالث أساسا في الوقت التي لم تستقطب فيه المناطق الطرفية والولايات الحدودية إلا نسبة محدودة جدا رغم كل الامتيازات الممنوحة منذ بعث صندوق اللامركزية الصناعية سنة 1977 (Foprodi) وقوانين 1981 و1987 ومجلة الاستثمارات سنة 1993 وكل النصوص اللاحقة لتحديد مناطق التنمية ذات الأولوية إلى حدود 2010.
أما برامج التنمية الجهوية (PRD) فهي لا تتجاوز إجمالا %11 بالمائة من الاستثمار العمومي و%5.2 من إجمالي الاستثمار. فهل بهذه النسب يمكن تسوية مسألة التنمية الجهوية والمحلية؟
3 – النتيجة : ثنائية الإقصاء والمطلبية والنضال
يمكن أن نتبين من خلال ما سبق أن هناك ثنائية مجالية على مستوى الإقصاء والمطلبية مما يجعل الملائمة بينهما عملية معقدة وتحدد مستقبل الثورة والبلاد.
أ – من جهة، نجد أن السواحل والمدن الكبيرة والمتوسطة (خاصة الصناعية والسياحية منها) تتمتع باقتصاد متنوع ومتطور وتمتلك شريحة اجتماعية متوسطة هامة وقع تهميشها على المستوى السياسي أساسا لكنها تتمتع بقة شرائية لا يستهان بها نسبيا ولكنها بدأت تتهرأ في السنوات الأخيرة. من هذا المنطلق، نجد أن المطلب الأساسي لهذه الفئات يتمثل في المشاركة السياسية والديمقراطية والحرية وكذلك المطلبية المهنية التي لحظنا أنها تفاقمت بصفة ملحوظة بعد الثورة مباشرة سواء كانت موجهة أو عفوية وغير مؤطرة تماما.
ب – من جهة ثانية، نجد المناطق الداخلية والأرياف وبعض المناطق الفقيرة بالسواحل التي تعيش، بالإضافة إلى التهميش السياسي، تهميشا آخر أكثر ضراوة وأكبر وقعا يتمثل في الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي بالأساس. من هذا المنطلق نجد أن المطلب الأساسي لهذه الفئات والمناطق يتمثل في التشغيل والتنمية والحد من الفساد.
هذه الثنائية الإقصائية أنتجت ثنائية مطلبية ونضالية تتمثل في النضال السياسي-الإيديولوجي من ناحية والنضال الاجتماعي-الاقتصادي من جهة أخرى. فمطلب الفئات الشعبية رافقه ولو بصفة متأخرة وأطره المطلب السياسي للشرائح المتوسطة والنخب التي تكون قد استحوذت بقدر كبير على الثورة ومطالبها من خلال التأطير الإيديولوجي وإعطاء الأولوية للجانب الحزبي والإيديولوجي والانتخابي والقانوني على حساب البعد الاقتصادي والتنموي والاجتماعي.
هذه الثنائية نجدها كذلك في مسار الثورة حيث نرى أن قافلة الكرامة التي انطلقت من الدواخل ردت عليها قوافل التضامن والاعتراف من السواحل وأساسا العاصمة. وأن اعتصامات القصبة مثلت المراحل الفارقة في مسار الثورة وساهمت في تجذيرها رغم تردد النخب والمجتمع السياسي إزاءها وحتى رفضها في البداية من جهة أخرى مع الالتفاف عليها في ما بعد. فنلاحظ إلى حد اليوم أن الجانب السياسي لا يزال طاغيا على الساحة على مستوى النقاشات في الصحف ووسائل الإعلام والأحزاب والهيئة العليا بالأمس والمجلس التأسيسي اليوم نظرا لما تتطلبه المرحلة الراهنة ولضغط الزمن المرتبط بالانتخابات وبالمواعيد الانتخابية (24 جويلية 2011 ثم 23 أكتوبر 2011 أو حاليا من خلال تحديد موعد الانتخابات القادمة) في الوقت الذي نجد فيه البعد التنموي والاقتصادي مغيبا تماما. هذا الوضع ينذر بالخطر نظرا لأهمية البعد الجهوي والترابي في صيرورة الثورة والذي كان قداحة الثورة التي انطلقت من أكثر المناطق فقرا وأقلها نموا على الإطلاق، على كل المستويات.
4 – تونس في مفترق الطرق
لقد بينت العديد من الدراسات في العالم أن التنمية الجهوية والهيكلة الترابية تكاد تكون مستحيلة عندما تكون المؤشرات الاقتصادية والحضرية ضعيفة أو مرتفعة وذلك لمحدودية الموارد في الحالة الأولى وصعوبة المسألة في الحالة الثانية. فالحالة الوسطى تمثل المرحلة المواتية للعمل الجهوي وتغيير البنى التحتية والترابية.
فالبلاد التونسية توجد منذ نهاية الثمانينات في هذه المرحلة الوسطى التي تمثل مرحلة حرجة وفارقة بالنسبة إلى التنمية الجهوية والتهيئة الترابية حيث تتميز:
- بمستوى دخل متوسط
- نسبة تحضر مرتفعة تجاوزت 50 بالمائة منذ 1975 وتفوق اليوم ثلثي السكان
- نسبة تشغيل صناعي متوسطة تتراوح بين 15 و20 بالمائة
- نسبة تمدرس مرتفعة
كما تجدر الإشارة إلى أن التنمية الجهوية تخدم المصلحة الوطنية بصفة غير مباشرة فوجود بنية ترابية متوازنة يضمن تجنب المخاطر الداخلية والخارجية ويمكن من التأقلم مع جل الظروف الاقتصادية ويضمن التنمية المستدامة التي لا تتوفر إلا بتوفر بنية مجالية مستدامة، تفتح باب المستقبل على مصراعيه ولا تستجيب فقط لمقتضيات الظرف الراهن والمدى القصير.
II – التنمية الترابية ومقوماتها
لقد طرحت الثورة وبصفة جدية المسألة المجالية أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البلاد فقد بينت أن أي بناء مستقبلي لا يمكن أن يمر إلا من خلال التنمية الترابية.
1 – التنمية الترابية
تعتمد التنمية عموما أو التنمية الترابية على أربع ركائز أساسية : النمو والتقدم والاستقلالية والاستدامة في انطلاق العملية ومسارها وصيرورتها. تتمثل التنمية الترابية عامة، والجهوية أو المحلية خصوصا، في تطور الثروة وتركيمها من خلال ارتفاع الأجور والمداخيل للأفراد والمؤسسات وتطور الإنتاج المادي واللامادي للمجتمع وهو ما يتمثل في النمو الاقتصادي. هذا النمو يمكن أن يفضي، في مرحلة لاحقة، إلى تحول نوعي هيكلي للتركيبة الاجتماعية والذهنية والسلوكية وإلى تطور المرافق والتجهيزات الاجتماعية والاقتصادية وتتمثل هذه المرحلة في التقدم (Progrès) والحداثة (Modernité). فالتدرج من النمو إلى التحول الهيكلي ليس آليا والنمو لا يفضي دائما إلى التنمية.
هذه العملية التنموية تتطلب الاعتماد على الذات أساسا ولو بنسبة محدودة مما يتطلب توفر مقومات الاستقلالية كالسلطة والمؤسسات والتمويل مما يضمن الاستدامة التي تمثل شرطا أساسيا من شروط التنمية والتي تجعلنا اليوم نتحدث أكثر من قبل عن التنمية المستدامة.
فالتنمية الترابية عامة، سواء كانت وطنية أو جهوية أو محلية، تتطلب وجود جماعة ترابية ممثلة للسكان تسهر على شؤونهم وتمكنهم من المساهمة الفعلية في تصور واقعهم وتحديد مستقبلهم بصفة تشاركية في إطار المواطنة والإنصاف والديمقراطية، مما يجعل منهم مواطنين بأتم معنى الكلمة، يساهمون في الشأن العام مما يضمن تملك المجال وتنظيمه والمحافظة عليه راهنا ولمستقبل الأجيال بحيث يصبح المجال ركيزة من ركائز التنمية التي لا تستقيم دون توفر السلطة الترابية التي تمثل المجموعة.
2 – الجماعة الترابية
هي جماعة ممثلة لسكان منطقة محددة، تدير شؤونها وتتمتع باستقلالية نسبية وبموارد مالية تمكنها من تصريف أعمالها والتدخل في كل الجوانب التي تهم المجموعة باستثناء كل ما له تبعات على المجموعة الوطنية أو على مناطق وأقاليم أخرى. ويمكن أن نتبين، في هذا الإطار، عدة مستويات ترابية تتدرج من المدينة أو البلدية إلى المعتمدية والولاية والجهة أو الإقليم.
وتجدر الإشارة إلى أن المستوى الإقليمي غير موجود بالبلاد التونسية في الوقت الذي نجده في جل البلدان الديمقراطية (فرنسا، أسبانيا، إيطاليا…) بالإضافة إلى البلدان الفيدرالية (الولايات المتحدة، ألمانيا، البرازيل، الهند…) التي نجد بها غالبا 3 أو 4 مستويات ترابية تسيرها هيئات منتخبة تتمتع بصلاحيات واسعة وبإمكانيات مادية ومالية تتماشى مع المهام المناطة بعهدتها ومع الأهداف المحددة لها.
3 – أهداف التنمية الترابية
تتلخص أهداف التنمية الترابية في عدة أهداف نذكر البعض منها فقط : التوازن المجالي، المواطنة، الديمقراطية والحوكمة.
أ – التوازن المجالي : يتمثل في العمل على إيجاد بنية ترابية متوازنة قابلة للتأقلم مع جل الظروف الخارجية والداخلية. هذه البنية الترابية المتوازنة تتمثل في توزيع معتدل للسكان والمدن والأنشطة الاقتصادية والتجهيزات الأساسية بشكل يضمن تنمية كل أرجاء القطر بشكل متكافئ ومعتدل وتضامني في كل الظروف الاقتصادية والسياسية الدولية والجهوية (فترات النمو والانسجام والتقارب أو فترات التأزم والنفور والتباعد). فالتنمية المجالية المتوازنة تمثل هدفا في حد ذاتها حتى على المستوى الوطني وتخدم المصلحة العليا للوطن بدرجة أولى وبغض الطرف عن مصلحة كل جهة على حدة. فالمناطق الحدودية يجب أن تحظى بعناية خاصة لدعم المدن والتجهيزات وربط مختلف المناطق ببعضها بغض الطرف عن إمكانية فتح الحدود على البلدان الشقيقة من دونها أو قيام السوق المغاربية من عدمها. فالهاجس الأمني الذي كان قائما والذي يفسر نوعا ما التهميش الحاصل من الجانبين يجب أن ينقلب إلى هاجس أمني من نوع جديد، يتمثل في هاجس تحقيق التنمية بهذه المناطق لتكون صمام الأمان وتصبح في المجالات الحدودية عنصر ربط وتواصل وليس عنصر قطيعة ونفور.
ب – المواطنة : تتمثل المواطنة في جانب كبير منها في الإنصاف بين الأفراد والمناطق والحد من الفوارق من خلال خارطة للطريق واضحة بشكل يضمن التنمية التضامنية. فالمواطنة تعني الانتماء إلى نفس الوطن وتفرض المساواة في التعامل بين كل المناطق وتمكينها من نفس الحظوظ. فبالاضافة إلى الحقوق الأساسية التقليدية كالغذاء والصحة والتعليم والتنقل نجد أن دائرة الحقوق لا تنفك تتوسع لتضم حقوق إضافية تتمثل في الحق في التنمية والمساهمة في الشأن العام والمشاركة في كل ما يهم المجموعة. فالمساواة بين الأفراد تفرض وجوبا المساواة بين المناطق وهو ما يفرض تمشيا توافقيا يقبله الجميع من خلال التشاركية والحوار.
ج – التضامن الترابي بين مختلف الجهات : ينبع التضامن الترابي من منطق المواطنة ويرتكز على الانتماء إلى نفس الوطن ومن هذا المنطلق على نفس الحق والواجب وليس من باب الشفقةأو الهبة، مما يتطلب القيام بإصلاح جبائي شامل يضمن للمنطقة التي تخلق الثروة من الحفاظ على جزء منها تحفيزها على الإنتاج ويمكن السلطة المركزية من نسبة محددة من الثروة تمكنها من الاضطلاع بمهامها ويسمح كذلك للمناطق الفقيرة الأخرى من الحصول على نصيبها من الثروة الوطنية بإسم التضامن الوطني. بهذا الشكل، نجد كذلك أن جزأ من الموارد المتأتية من الجباية المحلية يمكن من تمويل الجماعات الترابية من مستوى أعلى كالولاية أو الإقليم. هذا التضامن الترابي يتماشى نسبيا مع جل الأنماط التنموية المتبعة على المستوى الوطني سواء منها الليبرالية أو الاشتراكية ويمكن أن يندرج في إطار العولمة بمختلف أشكالها. ففي العديد من البلدان، كفرنسا مثلا، تحدد ميزانية كل بلدية وإقليم طبقا لعدد محدد من المقاييس مثل حجم السكان ونسبة التجهيز ومستوى الثروة المحلية…
د – الديمقراطية : ترتكز الديمقراطية على تمثيل المناطق والجهات والأحزاب والمنظمات المهنية والاجتماعية. بالاضافة إلى ذلك، فإن الديمقراطية تبنى من الأسفل وصولا إلى أعلى الهرم، وجل الأنظمة الديمقراطية ترتكز على 3 أو 4 مستويات ممثلة ومنتخبة وتتقاسم الأدوار في العملية التنموية. فالسلطة المحلية أو الترابية (بلدية، ولائية، إقليمية) تمثل السكان وتمكن الفرد من أن يكون مواطنا بأتم معنى الكلمة وذلك عبر التشاركية الفعلية في كل جوانب الحياة الاجتماعية في مختلف المستويات الترابية مما يجعل منها سلطة مضادة للسلط الترابية الأخرى (المركزية، الجهوية، المحلية…) وتمكن من تعديلها والحد من تغولها إن لزم الأمر.
ه – الحوكمة (أو الحكم الرشيد) : تتمثل في المشاركة الفعلية في الشأن المحلي والجهوي والتصور والاختيارات، مما يتطلب تشريك كل الفاعلين في المنطقة في عملية وفاقية تضمن اندراج كل الأطراف في العملية التنموية تبعا للمقولة « كل ما ينجز لفائدتي دون مشاركتي فهو ضدي » (Tout ce qui est fait pour moi sans moi est contre moi). فالدولة تتواجد من خلال من يمثلها كالوالي أو المعتمد الذين يسهران على التنسيق، لكن المسير الفعلي يجب أن يكون منتخبا وممثلا للسكان في شكل مجالس جهوية ومحلية منتخبة تتولى وضع الخطط وتحدد البرامج وتتخذ القرارات، من جهة ثالثة نجد المجالس التقنية التي تضم المصالح الفنية الجهوية والمحلية وتتولى الاستشارة والدراسات. هذه الثلاثية متلازمة للوصول إلى الحوكمة الترابية.
فالمواطنة تقتضي اليوم التشاركية الفاعلة في مختلف المستويات الترابية في نفس الوقت بما يعني ذلك استبطان الانتماء إلى عدة ترابيات في نفس الوقت وما يتطلبه ذلك من المساهمة الفعلية في نحت ملامح الغد عبر الحوكمة و الحوكمة الترابية (géogouvernance) عبر المساهمة الفعلية في نحت ملامح الغد واعداد بوابات تفاعلية تمكن المواطن من التدخل في أي وقت لإبداء رأيه وتغيير القرارات وتمكن كذلك المسؤولين من الإطلاع على رغبات وتطلعات المواطن لتعديل البرامج والاختيارات في الحين وفي الوقت المناسب.
هذه الحوكمة تتطلب تحديد الفاعلين المحليين والجهويين وتحفيزهم وجعلهم يندرجون في العملية التنموية وذلك من خلال اضطلاعهم بدور إيجابي وتجذيرهم ترابيا في الجهة أو المنطقة من خلال بعث بنوك جهوية وشركات جهوية ومحلية للتنمية بدعم من الدولة من شأنها أن تؤسس لاقتصاد محلي وجهوي يمكن من توظيف الموارد واستغلال كل الإمكانات والكفاءات المتوفرة للتنمية مما من شأنه أن يخلق دينامية محلية تساهم في شد السكان وحث الإطارات المهاجرة على الرجوع إلى مواطنها الأصلية إذا ما تحسنت أطر العيش وتوفرت المهن الملائمة وجعل هذه المناطق مواضع جذب لسكان المناطق الأخرى مما يغير كليا من صورة المناطق الفقيرة والمهمشة حاليا.
في النهاية، لا بد من الإشارة إلى حتمية عكس العملية التنموية. فالمجال أو التراب أصبح يمثل عامل إنتاج في حد ذاته بالإضافة إلى العوامل التقليدية في علم الاقتصاد (رأس المال، العمل، الأرض). وهذا بجرنا إلى إن ننظر إلى الإمكانات المحلية والجهوية وكيفية استغلالها قبل أن ننظر إلى المعوقات التي تحول دون عملية التنمية. فجل المناطق لها خصوصياتها ولها من المميزات ما يجعل منها مناطق جذب كلما غيرنا في التمشي والعقلية التقليدية التي تركز دائما على السلبيات. فالسؤال الذي يجب أن يطرح هو التالي: ما هي إمكانات المنطقة، ما هي خصوصياتها، كيف يمكن استغلالها وتوظيفها؟ عوض عن معوقات التنمية وحدودها.
4 – مقومات التنمية الترابية
تقوم التنمية الترابية على عدة أسس سنقتصر على البعض منها كالجانب المؤسساتي والمالي والجبائي.
أ – خلق الجهة أو الإقليم : يجمع الإقليم عدة ولايات بحيث يمثل حجما مناسبا لتكوين سوق اقتصادية ويشمل عدة أنشطة متنوعة تضمن التكامل والتنافسية في نفس الوقت. هذا الإقليم يتكون حول عاصمة إقليمية تؤطر الجهة وتوفر كل الخدمات الجهوية عبر شبكة حضرية متراتبة تضم عدة مستويات من المراكز الحضرية. هذه الأقاليم تقطع مع التقسيم الترابي التقليدي للقطر وتضم مناطق ساحلية وداخلية في نفس الوقت لتكوين أقاليم مندمجة على المدى المتوسط (10-15 سنة) والبعيد (20-25 سنة) وتتميز بإشكالية تنموية مميزة ومتكاملة ومندمجة.
خلافا للتنمية المحلية التي يمكن ويستحسن أن تقوم على التخصص وأن تقتصر على أحادية النشاط نظرا لصغر الحجم ومقتضيات الفاعلية والتخصص فإن التنمية الإقليمية لا تقوم إلا على التنوع الاقتصادي مما يضمن التكامل والتكافل والتنافس والنجاعة في نفس الوقت.
ب – توفر مؤسسات ووسائل التنمية الجهوية : تتمثل في خلق المؤسسات الدستورية للسلطة الجهوية والإقليمية في شكل مجالس منتخبة تسير شؤون المنطقة بالاستعانة بالجالس التقنية. هذه المجالس تشمل البلدية والمعتمدية والولاية والجهة.
كما تتمثل الوسائل في بعث صندوق للتنمية الجهوية وصندوق آخر للتنمية المحلية داخل الأقاليم تكون في مرحلة أولى بمبادرة من الدولة وبمساهمة من البنوك مع اندراج القطاع الخاص والمواطن العادي لاحقا وبصفة تدرجية في شكل مساهمة في رأس مال هذه المؤسسات لتحفيز الاستثمار الجهوي والمحلي والتجذير الترابي للفرد والجماعات وخلق علاقة جديدة بين المواطن ومجاله.
ج – بعث بنوك جهوية وشركات جهوية للتنمية بتشريك رأس المال الجهوي والمحلي والبنوك الوطنية العمومية والخاصة، خاصة وأن الثروات متوفرة في جل المناطق ولو بنسب متفاوتة ولا تتطلب سوى التحفيز وخلق المناخ الملائم. فالبنوك الوطنية لا تهتم بالجهة إلا إذا استوفت كل شروط المردودية الكلاسيكية وتقوم بموازنة بين مختلف المناطق وتتولي في النهاية تبني تمويل المشاريع الأكثر مربوحية وبهذا التمشي يقع تغييب الجانب الجهوي والمحلي لفائدة البعد الوطني. أما إذا كان رأس المال محليا أو إقليميا (أفراد، كبار الفلاحين والتجار، أرباب المهن، شركات تنموية وبنك جهوي…) بالإضافة إلى الدولة، فإنه سيتوجه كليا إلى الاستثمار المحلي والجهوي.
ه – العمل على اللامركزية الإدارية والاقتصادية بشكل فعلي مع تقييم كل السياسية التي وقع إتباعها إلى حد اليوم، بالإضافة إلى ذلك يجب العمل على دعم التخفيف من التركز و تدعيم اللاتركز وتفعيل الآليات التي من شأنها أن تشجع التوطن في المناطق الداخلية وتخلق دينامية اقتصادية فعلية تؤدي إلى تعديل الكفة نسبيا لفائدة المناطق الطرفية والحدودية والمناطق غر المحظوظة.
و – إصلاح شامل للنظام الجبائي من شأنه أن يجعل المناطق المحضوضة تساهم في تنمية المناطق المحرومة والفقيرة بشكل يمكن من تمويل التنمية الجهوية والمحلية. في هذا الإطار، يجب تقاسم الثروة بشكل يمكن كل السلط الترابية من قسط من التمويل الذاتي يجعلها تتمتع بحد أدنى من الاستقلالية مع سن التضامن المواطني ويجعل منه حقا للمناطق الفقيرة وواجبا على المناطق الغنية خلافا للطرح الأخلاقي الذي كان ولا يزال سائدا.
ز – إعداد مثال جديد للتهيئة الترابية يضبط التوجهات الأساسية بعد الثورة ويخدم الأهداف التي قامت من أجلها كالتوازن الترابي والإقليمي وإعادة هيكلة النظم الحضرية الجهوية وتعديل النظام الحضري الوطني بشكل يضمن التوزيع المتكافئ للثروات والأنشطة والسكان والتجهيزات ويمكن البلاد من بنية ترابية ومجالية متوازنة تؤسس لتنمية مستدامة وقادرة على التلاؤم مع جل الظروف. هذا المثال يحدد ملامح تونس الغد ويؤسس لمجال متوازن متضامن يطيب فيه العيش أينما كنا، يعدل من تضخم العاصمة دون المس من جاذبيتها الدولية ويدعم المدن المتوسطة والبينية التي تعتبر الحلقة الأضعف من المنظومة الحضرية الوطنية (Belhedi A 1992, 2004).
ح – فك الانحباس الترابي للجهات والمناطق وربطها ببعضها البعض من خلال بعث اقتصاديات جهوية متنوعة ومرتبطة عبر شبكات إنتاجية (Filières) ومنظومات إنتاجية محلية (Systèmes productifs localisés) وكذلك من خلال شبكات نقلية مترابطة اعتمادا على مقتصدات القرب (économies de proximité) والترابط (économies de connexité) مما يخلق اقتصاديات إقليمية قائمة الذات ومتكاملة تعتمد على الإمكانات المحلية والجهوية. هذا الترابط الجهوي يجعل المناطق الداخلية خاصة تنمو بصفة مستقلة عن العاصمة ويعوض سلبيات الموقع الطرفي أو الحدودي.
في النهاية، يمكن أن نركز على ضرورة طرح المسألة الترابية والمجالية على النقاش العام خلال الفترة الانتقالية لكي يتسنى لكل الأطياف والأطراف أن تدلي بدلوها في المسألة ويقع حسمها بمساهمة الجميع والتوصل إلى حل يرضي الأغلبية من المجتمع التونسي.
فالمسألة المجالية لا تتمثل في القضاء كليا على الفوارق الجهوية وبين المناطق والأوساط وهي عملية خيالية وغير ناجعة تماما على المستوى الاقتصادي في نفس الوقت بقدر ما تتمثل في تحديد مستوى التفاوت المقبول من الجميع الذي يضمن في نفس الوقت استمرارية نمو المناطق الدينامية ويأخذ بيد المناطق الفقيرة دون الوقوع في الشعور بالضيم أو وضع حد لدينامية النمو. هذا التمشي يتطلب مساهمة جميع الأطراف في النقاش العام والوصول إلى وفاق يضمن المستقبل يضمن في الدستور ليكون ملزما للجميع على المدى الطويل ويجنب البلاد هزة أخرى تكون عواقبها وخيمة.
المراجع
Belhedi A – 1992 : L’organisation de l’espace en Tunisie. FSHS, Tunis
Belhedi A – 2004 : Le système urbain tunisien. Cybergeo 258, http://cybergeo.revues.org/3877
Belhedi A – 2007 : Le rayonnement spatial des villes tunisiennes à travers la diffusion des entreprises multi-établissements pour l’innovation. Cybergeo, 372, http://cybergeo/revues.org/5607
COGEDRAT – 1984 : Evaluation du Programme de Développement Rural (PDR) 1973-1982.
COGEDRAT – 1986 : Plan régional de Développement. Nord-ouest, Sud, Centre-Ouest.
INS : Recensement Général de la population et de l’habitat depuis 1956
INS : Enquête de dépenses des ménages depuis 1967
MDE – 1996: Migration intérieure et développement régional. Etude stratégique. Etude pilotée par A Belhedi 1995-1996. 351p. INS. Tunis.
تونس، 19 نوفمبر 2013
[1] - لقد ساهمنا شخصيا في اعداد هذه الامثلة في مايخص التهييئة الترابية
[2] – لقد سعت السلط إلى تفعيل عدة توصيات من الدراسة « المدن والأرياف » سنة 1973 دون أن تكون لهل أية صبغة رسمية، نفس الشيء بالنسبة لسنة 1985 مثل القطب الجامعي لجندوبة. هذا التمشي يترك للسلطة هامشا هاما في تنفيذ او في التخلي عن بعض المشاريع أو التوصيات والقرارات.
- [3] هذا البرنامج بعث ليضم كل البرامج التي لها قاعدة جهوية في توزيع الاعتمادات كالتنمية الريفية المندمجة والحضرية المندمجة والحضائر…